« ما يقال عن تصنيف الأجناس الأدبية قابل للتّغيّر، فالكتابة هي التي تتحكم في بنية الجنس لا العكس و »الكاتب لا يقرر ما يكتب إذ أن اللغة أكبر من كاتبها » هكذا تحدث الدكتور حمادي صمود المختص في البلاغة العربية بعد ظهر الأحد في لقاء حول « السيرة الذاتية » يندرج ضمن الحلقة الثانية من مجالس الكتاب الملتئمة في إطار فعاليات المعرض الوطني للكتاب التونسي (19-28 أكتوبر 2018).
ولئن شاطره الدكتور شكري المبخوت، في هذا المجلس الأدبي، رأيه في أن الكاتب لا يختار ما يقوله، فإنه شدد في المقابل على أننا « باللغة نستطيع أن نعبر عما نريده لكن لا ما يختلج في ذواتنا بالضبط » فـ »باللغة نصنع عوالمنا التخييلية ».
ويرى المبخوت صاحب « الزعيم وظلاله » وكتاب « سيرة الغائب سيرة الآتي » (الصادر في طبعة منقحة عن مسكلياني 2015) الذي كان منطلقا للحوار، والذي منحه جائزة الملك فيصل للغة والأدب 2018، أن السيرة الذاتية تعد من أقوى الأجناس في التعبير عن الذات لكنها في تقديره، ضحية ضغوطات واستبطان لمحرمات، مشددا على أهمية تحرر الخيال والجسد واللغة لا فقط الفكر عند كتابة السيرة.
وأشار إلى التعطل الكمي للسير الذاتية باللغة العربية مفسرا ذلك بعدم اختراق المحظورات وعدم الاعتراف بالفرد في ثقافتنا العربية الإسلامية، فكتابة السيرة الذاتية تتطور بتطور الفرد واتساع مساحات الحرية في المجتمعات العربية، ملاحظا أنه باستثناء بعض التجارب مثل تجربة محمد شكري، فإن جل كتابات السيرة مبنية على الخجل وعلى رؤية وتمثل للجسد الذي ينبغي أن يستر ». وذهب صمود في الاتجاه نفسه قائلا « كلما كان رفع المحظورات عميقا أمكن للسيرة الذاتية أن تكون ».
واعتبر كتابه « طريقي إلى الحرية » الصادر عن دار محمد علي للنشر، والذي توج بجائزة أبو القاسم الشابي للإبداع الأدبي عن أفضل كتاب سيرة (2017)، والذي كان أيضا منطلقا للحوار، الذي أداره سمير بن علي المسعودي، أراده شهادة لما عايشه من مراحل تعليمية، وهي في تقديره شهادة اعتراف للدولة الوطنية بالمجهود الذي قدمته له ولأبناء جيله. وفيها رسائل موجهة إلى جيل اليوم مفادها أننا « بالجهد وحده نصل إلى ما نصبو إليه، وأن الدولة تقدم الدعم المالي لمن يستحقه ». كما يتضمن الكتاب إضاءات توضح أسباب قوة التعليم في مرحلة ما بعد الاستقلال وأسباب تراجعه حاليا.
وشدد في المقابل على أن ما يقال من تراجع للجامعات التونسية في سلم ترتيب الجامعات العربية غير دقيق، خاصة وأن معايير التقييم لا تتعلق فقط بجودة التعليم بل بالبنية التحتية والمساحة المخصصة لكل طالب ومدى توفر مطاعم جيدة ورفاهية ووصل بشبكات الانترنات وغيرها من المعايير التي لا تعكس ضرورة حقيقة التعليم في تونس.
وعن مدى اعتبار كتابه سيرة ذاتية، أشار صمود إلى أن فيليب لوجون وضع مقومات كتابة السيرة الذاتية، لكن هذا لا يمنع وجود كتابات تتضمن هذه المقومات لكنها تنفتح على عوالم أخرى. وفي السياق ذاته اعتبر المبخوت أن ما كتبه حمادي صمود واعتبره شهادة، وكذلك حبيب الجنحاني، هو مكون من مكونات الكتابة السيرية، إذ نجد في كتابيهما الخطاطة التي وضعها طه حسين في كتابه « الأيام ».
وأوضح أن كتاب طه حسين كتابا تأسيسيا في كتابة السيرة، فـ »الأيام » حيرت النقاد وبعثت فيهم أسئلة فكرية استعصت على قواعد كتابة السيرة. ولفت إلى أن جيل طه حسين هو من بدأ كتابة السيرة الذاتية بالمعنى الحديث، فهو جيل الليبرالية العربية والسيرة الذاتية دون ليبرالية، وفق المبخوت، لا معنى لها « خاصة مع ضغط المنظومة التقليدية القديمة. فكتابة السيرة « فيها تمرد على السائد، وتحمل إدانة للواقع الضاغط ».
واعتبر أن السيرة الذاتية أوسع مدى مما نجده في الكتب المنشورة، ملاحظا ما تتضمنه بعض المحامل من سير لأصحابها على غرار بعض ما يكتب على صفحات الفايسبوك من بوح دون تخفي أصحابها وراء أقنعة. واعتبر أن درجة البوح التي نجدها في الروايات اليوم « لم يبلغها عبد الرحمان منيف ولا نجيب محفوظ »، في تقديره. وهو ما يؤكد قيمة ارتفاع سقف الحريات.
وتحدث في السياق ذاته عن وجود عدة فضاءات يقدم فيها البعض سيرهم الذاتية من ذلك خطابات الزعيم الراحل حبيب بورقيبة سواء التلفزية أو الإذاعية أو أمام طلبة معهد الصحافة وهي خطابات قدم فيها سيرته الذاتية بطريقة جريئة بحسب شكري المبخوت. واعتبر أيضا أن الحوارات التلفزية مع الأديبين البشير خريف ومحمود المسعدي والحوار المطول مع المدير الأسبق للحزب الاشتراكي الدستوري محمد الصياح (الصادر في كاتب عن دار سيراس) هي شكل من أشكال السّير الذاتية.