صدر للباحث والمؤرخ الدكتور عبد اللطيف الحناشي هذه الأيام، عن الدار التونسية للكتاب، إصدار ثري بعنوان « عقوبات النفي والإبعاد المسلطة على الوطنيين زمن الاحتلال الفرنسي للبلاد التونسية (1881-1955) » وهي نسخة مزيدة ومنقحة للطبعة الأولى من هذا المؤلف الذي نشر سنة 2003 عن كلية الآداب بصفاقس.
وسعى الباحث من خلال هذا المؤلف الجديد الوارد في 567 صفحات، إلى « إبراز بعض أشكال العنف والإيذاء النفسي والبدني الذي مارسته الجمهورية الفرنسية – الثالثة والرابعة بالبلاد التونسية – ضد السكان التونسيين وخاصة أولئك الذين عارضوا أو تصدوا لسياستها وعنفها ».
كما حاول في هذا العمل الذي هو في الأصل أطروحة دكتوراه بعنوان « المراقبة والمعاقبة بالبلاد التونسية : الإبعاد السياسي أنموذجا » (1881-1955) أن ينقل « بقدر كبير من الموضوعية العلمية، صمود هؤلاء الوطنيين والسكان العاديين، المبعدين والمسجونين والمنفيين، في مواجهة هذا العنف الصاخب أحيانا والصامت في اغلب الأحيان ».
ولئن تعددت أنواع العقوبات التي سلطها المستعمر وتراوحت بين السجن والفصل من الوظيفة والنقل التعسفية والإبعاد والنفي، فإن الباحث اختار هذه العقوبة الأخيرة بالذات ليخصها ببحث شامل.
وفي حديثه عن هذا الاختيار ليكون موضوع المؤلف الجديد، أشار الدكتور عبد اللطيف الحناشي في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء، عن اهتمامه الكبير بحقل السياسات العقابية كمبحث، معتبرا أنها مسألة معقدة، وأشار إلى قلة الباحثين الذين تناولوا السياسة العقابية في المستعمرات، وحتى القلة ممن تناولوا هذه المسألة بالبحث في فرنسا مثلا، اهتموا بالجانب المدني لا السياسي، أي لم يهتموا بالنفي والإبعاد لأسباب سياسية.
وبين أنه أثبت من خلال هذا البحث سعي المستعمر الفرنسي إلى « طمس التاريخ » بلغة هيغل، أي طمس نشاط الحركة الوطنية في تونس، إلا أن هذه السياسة أفرزت نتائج عكسية، حيث تمددت الحركة الوطنية جغرافيا واجتماعيا في الداخل والخارج.
ووفق ما جاء في تقديم الإصدار فقد امتد مجال البحث زمنيا بين 1881 و1955، إذ يشير التاريخ الأول إلى احتلال القوات الفرنسية البلاد التونسية ومباشرتها لعمليات النفي والإبعاد وترحيل مئات الأفراد والمجموعات داخل البلاد وخارجها واستمرار تلك العمليات خلال تواريخ متقطعة وصولا إلى سنة 1955 وهي السنة التي رفعت فيها حالة الحصار وأطلق سراح ما تبقي من المبعدين والمسجونين التونسيين لأسباب سياسية بعودة الفارين من المحكوم عليهم بأوامر إدارية أو قضائية، إلى أرض الوطن وإيقاف جميع التبعات ضدهم.
وقد تناول الباحث في هذا المؤلف عدة مفاهيم ومصطلحات منها « الإبعاد المعاكس » أي إبعاد التونسيين الوطنيين الناشطين في فرنسا، إلى تونس، و »الإبعاد الحر » أي إبعادهم إلى أي مكان يختارونه إلا تونس (على غرار ما حصل مع المناضلين الوطنيين علي باش حامبة ومحمد علي الحامي)، كما تطرق الكاتب في هذا الكتاب إلى الحياة اليومية للمبعدين.
وأوضح الباحث أنه أنه تناول مسألة الحياة اليومية كيف كان المنفيون المبعدون اعتمادا على عديد المواصفات أي لا فقد بالاعتماد على المقاربة التاريخية بل استنادا إلى العلوم الرديفة (مثل العلوم الاجتماعية وعلم النفس وغيرها).
وقد تم تخصيص الباب الأول (الذي احتوى على أربعة فصول) لبحث الخلفيات التاريخية لهذه الظاهرة، وإبراز الأسس القانونية للإبعاد وأهدافه ووسائل تنفيذه. أما الباب الثاني (6 فصول)، فقد خصص لبحث أسباب ومظاهر سياسة الإبعاد مع محاولة لتحديد بعض المواصفات الاجتماعية والثقافية والسياسية للمبعدين.
وفي الباب الثالث (الذي ضمّ 4 فصول) اهتم الباحث بدراسة جغرافية مناطق الإبعاد ومميزاتها وطرق المراقبة والمعاقبة المعتمدة من قبل السلطات المشرفة بالإضافة إلى إبراز مظاهر الحياة اليومية للمبعدين، فيما خصص الباب الرابع والأخير (3 فصول) لبحث فاعلية سياسة الإبعاد وحدودها وذلك من خلال تحديد ردود الأفعال التي أعقبت مختلف عمليات الإبعاد وتحليل انعكاساتها على تطور الحركة الوطنية سواء من حيث درجة إشعاعها جغرافيا أو من حيث تبلور أطروحاتها وبرامجها أو تطور العلاقة بين مكوناتها.
وأشار الدكتور عبد اللطيف الحناشي في تصريحه لـ »وات » إلى أنه استند في هذا المؤلف إلى مباحث ميشال فوكو التي تعلقت بالعزل الاجتماعي، لكن فوكو اشتغل أساسا على السجون، فيما جاء اهتمام الحناشي بالعزل والنفي في/نحو فضاءات أخرى.