افتتحت أيام قرطاج المسرحية في دورتها الخامسة والعشرين في سهرة السبت23 نوفمبر بعرض حمل عنوان « عودة النجم »، وهو إنتاج صيني بإمضاء المخرج « ليمي بونيفاسيو » الذي دمج بين الرمزية والتجديد وقدم رؤية فنية بصرية عميقة، مستعرضا رحلة الإنسان الداخلية في بحثه عن هويته ومعناه الوجودي وسط تحديات العصر الراهن.
وسجّل هذا العرض العالمي الأول الذي تم تقديمه، في مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة، حضور جمهور غفير من مسرحيين تونسيين وممثلي سفارة جمهورية الصين الشعبية بتونس، ووفود عربية وافريقية وأجنبية مشاركة في هذه الدورة 25 لأيام قرطاج المسرحية.
تبرز السينوغرافيا في « عودة النجم » كأداة فنية مؤثرة استخدمها « بونيفاسيو » بذكاء شديد لخلق أجواء غامضة تتناغم مع موضوعات المسرحية، حيث تظهر في المشهد الافتتاحي شخصية وحيدة واقفة وسط الظلام في الجزء الخلفي للركح مع خلفية من النار المشتعلة التي تلتهم المساحة خلف هذه الشخصية. ويحمل مشهد النار الافتتاحي في طياته معان متعددة كالدمار والتطهير ثم التجديد.
السينوغرافيا: لغة بصرية تنبض بالمعاني
واستخدم المخرج السينوغرافيا كأداة قوية لسرد القصة، إذ سيطرت في عنصر الإضاءة الألوان الداكنة على المسرح لتعكس أعماق الوجدان الإنساني. ففي قلب هذا الظلام، ظهرت شخصية وحيدة مع بداية العرض محاطة بظلال عميقة وكأنها تعكس صراع الإنسان الأزلي بين النور والظلام. وقد كانت النار المشتعلة خلفها بمثابة شمعة تنير الظلمات، ترمز إلى الأمل في مسار البحث عن الهوية والانتماء في عالم متسارع. وقد بدت كل حركة، وكل نظرة، وكل كلمة، تحمل في طياتها دلالات عميقة، تدعو المتفرج إلى التأمل في ذاته وفي العالم من حوله.
وبينما تحيط الشخصية ظلال قاتمة، ينبعث من النار شعاع من الضوء، وكأننا بالمخرج أراد من خلاله بناء أحداث مسرحيته على جملة من المتناقضات أبرزها بين الظلام والنور، ليصور حالة الصراع الداخلي الذي يعانيه الفرد بين الخير والشر.
ويشير العرض إلى وحدة الإنسان في هذا العالم وهو يشعر بالعزلة رغم كثافة الحركة من حوله، فالظلام يعكس هذه العزلة بينما الضوء المنبعث من الواجهة الأمامية للركح يرمز إلى التوق نحو البحث عن معنى وهدف في حياة مليئة بالصراعات.
وتتناغم هذه الصورة البصرية بقوة مع عنوان المسرحية « عودة النجم »، حيث بدت الشخصية مستعدة في رحلتها لإعادة اكتشاف نفسها، وعثرت على ضوء خافت وسط الظلام ليبقى الأمل في التجدد والبحث عن الذات هو المحور.
»عودة النجم » ونداء البحث عن الذات في عالم متغيّر
وعبر هذه الرحلة، حاول المخرج أن يجيب على أسئلة جوهرية وجودية: ما الإنسان؟ وما هو دوره في هذا العالم؟ وكيف يمكن أن يجد معنى لحياته؟ فمن خلال الشخصية الرئيسية التي تسعى جاهدة للعثور على هويتها، قدم العرض انعكاسا للتجارب الإنسانية المشتركة لا سيما في صراع « الهوية والحداثة ».
إن العودة إلى « الذات » أو « الهوية » أو « عودة النجم » لا تعني مجرد الرجوع إلى الماضي، بل هي رحلة من الداخل للبحث عن هوية أعمق وفقا لرؤية المخرج « ليمي بونيفاسيو » الذي يرى أن فكرة العودة إلى الجذور الثقافية التي يتبناها العرض ليست بالعودة الكلية إلى الوراء بل ينبغي على المرء استلهام القيم والحكمة من التراث والاستفادة منها في الحياة المعاصرة.
وإلى جانب السينوغرافيا بما هي تقنية مبتكرة في هذا العرض، حضرت الثقافة والهوية الصينية من خلال الأصوات والأغاني التراثية لجمهورية الصين الشعبية، والتي انبعثت من حناجر الممثلين لتُترجم الآهات أحاسيس الألم والمعاناة في هذه الرحلة الوجودية للإنسان المعاصر الذي فقد معناه وبات تائها مغتربا عن العالم.
وتنتهي مسرحية « عودة النجم » التي دام عرضها 90 دقيقة بفكرة العودة إلى الذات، فهذه الشخصية التي ظهرت في بداية المسرحية ألبسها المخرج زيّ رائد الفضاء لتعود إلى سمائها كما « النجم » الذي يعود إلى سمائه بعد رحلة طويلة ومضنية.
ويضمّن « بونيفاسيو » من خلال عمله « عودة النجم » جملة من الرسائل التي تدعو إلى البحث عن الذات، واستكشاف الهوية الحقيقية، من خلال التفكير في الجذور الثقافية وتوريثها للأجيال القادمة لتكون نجما ساطعا مرشدا لهم في هذا العالم المتسارع بالأحداث والمليء بالمتغيرات، مع الحرص على إيجاد توازن بين الماضي والحاضر والاستفادة من الحكم القديمة في مواجهة تحديات العصر الحديث، مهما كانت الصعوبات، ومهما كان سيلان الأنهار جارفا ومليئا بالمخاطر.