انطلقت الافتتاحات الجهوية للدورة 17 لأيام قرطاج المسرحية كاشفة عن أول الأعمال المشتركة بين تونس وعدد من الدول الأوروبية والعربية، لتكون مسرحية المرحلة 32 التونسية الإيطالية فاتحة العناوين، فكان عملا حمّالا لمضامين متناقضة ومتضادة، تروي ثنائية الخير والشر، السماء والأرض…
المسرحية المتكونة من ستة مشاهد أو وضعيات، عرّت واقعا أليما طالما كشّر عن أنيابه ونهش أحلام المثاليين الطامحين إلى ما هو أفضل، الساعين لتحقيق أحلام ليست إلاّ أضغاثا من نسج مشاعر هؤلاء.
المرحلة 32 للمخرجين معز مرابط وأندريا باولوتشي عن نص لرضا بوقديدة ونيكولا بونازي مسرحية انطلق العمل عليها منذ مدة تحقيقا لمبدأ العدالة الثقافية بين كل الجهات، حسب ما صرح به مدير هذه الدورة لسعد الجموسي الذي كان مواكبا لهذا الافتتاح، مسرحية كيّفها مخرجاها بحسب الفضاء الذي سيحتضن العرض، نزل تحت الأرض، منطلقا من هناك، داعيا ضيوفه عبر كائنات غريبة، هم المعذبون في الأرض حسب المخرج والذين ارتكبوا خطايا يتخلصون منها عبر إرشاد الناس لهذه المشاهد، لولوج النزل ثم تقسيمهم إلى مجموعات تطوف على 6 غرف، في كل منها مشهد سرياليّ يسلط ضوء نقده على مظاهر متعددة من الحياة التي يمكن أن تحصل في الدنيا كما يمكن أن تكون في القبر أو في ما بعد ذلك…
في إحدى الغرف يسكن زوجان هما بمثابة العبد والمالك، فلا حقوق للمرأة أمام رغبات زوجها، هي له مثل الخادم لسيده حتى في ممارسة الجنس، في حين يروي المشهد الثاني قصة شاب حلم بالهجرة فكان البحر مآله الأخير، يعتذر هذا الشخص الذي يطل على الجمهور من وراء الكفن من عائلته التي لم يستطع أن يوفي بوعوده تجاهها، شاكرا البحر لأنه استقبل جثته والسمك الذي حين نهشه لم يسأله عن جنسيته أو دينه أو وطنه…
في الغرفة المجاورة رجل بانت عليه علامات مرض عقلي يقوم كل يوم ويرتدي بدلته معتقدا أن هذا اليوم هو ميعاد تقلّده الرئاسة فتجيبه زوجته بأن غدا هو الموعد المرتقب وليس اليوم، فينزع ملابسه ويتكرر المشهد يوميا، فيما يقبع في غرفة مجاورة وفي مشهد مجاور شخص مكبّل بالسلاسل وقد تم نزع ملابسه إلاّ ما يستر عورته متحدثا عن تجربة سجنه في غوانتانامو وعن سبب ذلك الذي كان فقط لمجرد طرح أفكار معينة لم ترق لأصحاب المعتقل.
ولدى الانتقال للمشهد الموالي يأخذنا أصحاب العمل ومهندسوه لنرى رجل دين مسيحي وقد تحصّن بصومعته وانعزل عن العالم، حتى إذا استصرخته امرأة ما طالبة النجدة، قتلها ولم يؤويها خوفا من أن تكون خلوته بها مدخلا للحرام، فيما انتهى العمل بامرأة فقدت ابنيها التوأم واستعدت للرحيل من بلد لم يعطها إلاّ الخذلان، غير أنها لا تقوى على فراقهما رغم أنها لا تستطيع أن تحملهما معها، فتختار ما لا يخطر على بال، تختار أحدهما لتضعه في حقيبة السفر، فخير لها أن تصطحب واحدا ولو كان ميّتا على أن تكون وحيدة…
تنتهي المسرحية على مشهد قابيل وهابيل، مصارعة بين البراغماتية وبين المثالية، يقتل أحدهما الآخر وينتصر الشر على الخير عكس النهايات المعتادة.
في المسرحية نقاط قوة عديدة، لعل أهمها القدرة الفريدة على تطويع الفضاء للأعمال المسرحية والخروج من المسارح والأركاح المعتادة، فضلا عن التفاعل بين الممثلين والمشاهدين الذين يصبحون جزءا من العمل ويتحركون بحسب ما يُطلب منهم، فالفرجة لن تكون بالجلوس وإنما بالحركة ليس فقط داخل الغرف وإنما في طوابق النزل كناية كما أشرنا سابقا عن المستويات المتنوعة، السماء والأرض…
عمل ممتع فيه بحث كبير وتجميع للشتات وللمتناقض، هو لقاء بين المواقف وبين الأشخاص، نستحضر من خلاله رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي ورحلة البرزخ.