لقد سبق أن واجهت الإنسانية منذ بداية القرن الماضي أوبئة حصدت عدة أرواح لكن أزمة « الكوفيد 19 » وفي أقل من 100 يوم وضعت العالم أمام هشاشته وأمام استحالة استمرار الحركة داخل العالم الاجتماعي خشية العدوى والألم و الموت ودفعت السياسيين إلى اتخاذ قرارات غير مسبوقة لغلق المدن وعزل الدول ودعوة الجيوش للإسناد واستخدمت عبارة الحرب أكثر من مرة في خطابات المسؤولين الحكوميين.
و قد فتح فيروس كورونا الذي بدأت تونس تصارعه منذ تسجيل أول إصابة مؤكدة بتاريخ 2 مارس المنقضي قوس الإعتراف بالهامش من قبل الدولة والمجتمع ككل كما أكدت وجود أزمة إنسانية هيكلية تشمل هذا المجتمع الهامشي، وهو ما أبرزه الباحث في علم الاجتماع ماهر حنين من خلال الدراسة التي أصدرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تحت عنوان « سوسيولوجيا الهامش في زمن الكورونا الخوف-الهشاشة-الانتظارات ».
الهامش ضحية الوباء المفاجئ :
انطلق ماهر حنين في دراسته باستجواب « مواطنين » في أماكن نائية ومتباعدة تفتقد للماء الصالح للشراب يعانون من التشغيل الهش مثل عمال الحضائر والعاملات في القطاع الفلاحي والنسيج وفئة المعطلين عن العمل ومن ذوي الاحتياجات الخصوصية وسكان الأحياء الشعبية الطرفية ومهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء ».
هذه الشهادات أكدت وجود أزمة إنسانية حقوقية هيكلية تشمل هذا المجتمع الهامشي والذي كان للبعض منه تمثل اجتماعي آخر للوباء.
ويؤكد ماهر حنين أن كورونا كشفت عن قاعدة الهرم الاجتماعية العريضة التي تشكو الخصاصة وضيق ذات اليد وهم 700 ألف عاطل عن العمل و285 ألف عائلة معوزة و70 ألف عامل حضيرة و622 ألف عائلة ذات دخل محدود و380 ألف متقاعد تقل جرايته عن الأجر الأدنى المضمون بالإضافة إلى 70 بالمائة من اليد العاملة الفلاحية وهي نسبة العاملات في هذا القطاع.
كما يبلغ عدد التونسيين الذين يعيشون الفقر المدقع 320 ألف تونسي وهم عاجزون على توفير حاجياتهم الأساسية الغذائية قبل حاجياتهم الأخرى من سكن ولباس وتوجد ولايتي القيروان والقصرين في أسفل قاعدة الهرم. وفي القيروان وحدها يعيش حوالي 10 بالمائة تحت عتبة الفقر المدقع و31 بالمائة تحت عتبة الفقر.هذه القاعدة الاجتماعية « كشف عنها فيروس كورونا الحجاب وزعزع توازنها الهش اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا ».
فشل حكومي في التعامل مع » الهامش » :
في تقييمه للتعامل الحكومي مع مجتمع الهامش اعتبر ماهر حنين في دراسته هذه أن الدولة التونسية بدت غير مهيأة للتعامل مع فئة هامة من المجتمع التونسي حيث عجزت في التخاطب إعلاميا واجتماعيا مع حوالي 3 مليون تونسي، فلم تستطع توفير حاجيات الأرياف والمناطق الداخلية المعزولة من المواد الغذائية الأساسية وعجزت على تقديم المساعدات الاجتماعية لمستحقيها ولم يكن لها تعداد دقيق لمحدودي الدخل والمتضررين من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية لكورونا.
ويرى ماهر حنين أن تونس اليوم تمر بأزمة اقتصادية واجتماعية خطيرة تؤكد مرة أخرى أن المسألة الاجتماعية والاقتصادية ووضع منوال تنمية جديد شامل لمختلف فئات المجتمع التونسي هي أساس إنجاح الانتقال الديمقراطي وبناء الدولة. واعتبر أن هذا القوس الذي فتحته أزمة كورونا قد مثل في جزء منه طريق للاعتراف بهذا الهامش أولا من قبل الدولة ثم من قبل المجتمع الكلي والمجتمع المهيكل وليطرح بقوة مطلب وضرورة إدماجه الاجتماعي والاقتصادي.
كما تؤكد الأزمة أن لا قيمة للديمقراطية في ظل تواجد نصف المجتمع خارج منوال تنموي عادل وفي ظل غياب الحقوق الضامنة أولا للحق في الحياة. فلا يمكن لهذا المجتمع المشاركة في بناء ديمقراطي دون إدماج اقتصادي واجتماعي.
حين يدفع الفقراء كلفة الأزمة :
تقر كل الجهات بما فيها الرسمية ارتفاع المعدل السنوي للتضخم ليصل إلى حدود 7 بالمائة وهو ما أنهك القدرة الشرائية للطبقات الشعبية والمتوسطة ورغم الحرص الحكومي خلال أزمة الكورونا على حماية مسالك التوزيع والتزويد. يورد ماهر حنين في دراسته تشكي سكان المدن والفئات المتوسطة من ارتفاع أسعار مواد التعقيم والقفازات والأقنعة الواقعة في حين ظهرت في الأوساط الشعبية والريفية أزمة المواد الاستهلاكية الأساسية مثل مادة » السميد « ، هذا النقص في المواد الغذائية الأساسية وارتفاع الأسعار يخيفهم أكثر من خوفهم من الإصابة بفيروس الكورونا.
من جهة أخرى يصبح للمشكل أبعادا سياسية حين يقترن ارتفاع الأسعار ونقص المواد بالمحسوبية ودوائر النفوذ لأنه يطرح مشكل الفساد وتحديدا فساد النخب في عيون المهمشين خاصة وأنه من أهم شعارات الثورة هو مقاومة الفساد، فالكشف عن مخازن سرية للبضائع في مثل هذه الفترة وتوريد معدات فاسدة والتستر على مسؤولين محليين وجهويين ووطنيين مورطين في مساعي الإثراء زمن الجائحة ورفض من هم من ذوي النفوذ الالتزام بالإقامة بمراكز الحجر الصحي يجعل المجتمع غير واثق في النخب وفي الطبقة السياسية وعدم جديتهم في محاربة الفساد ومنظومته.
الكورونا تغذي قيم التضامن :
من خلال بعض الشهادات يذهب ماهر حنين في دراسته إلى مبدأ التضامن وتحرير المجتمع من النزعة الفردانية والمرور إلى العلاقة الاعتنائية بالأخر التي تتجاوز الجنس والدين واللون لتأخذ وجها إنسانيا واعدا والذي برز خاصة في مساعدة المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء الذين فقدوا عملهم، هذا إلى جانب جمع المساعدات وتوزيعها من قبل المتطوعين والذي لا يتم على أساس عائلي دموي أو قبلي وإنما على أساس تضامني مواطني إنساني.
ويضيف حنين في هذا الصدد أن المجتمع برمته وهو يواجه وباء الكورونا هو يخوض صراعا قيميا كذلك، بين قيم الفردانية والربح والملكية الفردية وقيم الاقتسام والتوزيع والتضامن وهو صراع على غاية من الأهمية حين ننزله في السياق التاريخي التونسي وفي السياق السوسيولوجي لمجهري للهوامش.
لا إدماج سياسي دون إدماج اقتصادي :
وخلص ماهر حنين في دراسته هذه إلى أن تونس تمر بأزمة اقتصادية واجتماعية خطيرة ودقيقة تأتي لتؤكد مرة أخرى أن المسألة الاجتماعية والاقتصادية ووضع منوال تنمية جديد شامل لمختلف فئات المجتمع التونسي هي أساس إنجاح الانتقال الديمقراطي وبناء الدولة. واعتبر أن هذا القوس الذي فتحته أزمة كورونا قد مثل في جزء منه طريق للاعتراف بهذا الهامش أولا من قبل الدولة ثم من قبل المجتمع المهيكل وليطرح بقوة مطلب وضرورة إدماجه الاجتماعي والاقتصادي، حيث لا إدماجا سياسيا لهذا المجتمع المهمش في عملية بناء ديمقراطي دون إدماج اقتصادي واجتماعي يتلخص في العمل اللائق والحق في الصحة و التعليم والمرافق العمومية مع إدماج فعلي يقوم يقوم على العمل من اجل إنتاج الثروة و العدالة و التكافؤ و الاحترام و طالما ستستمر نفس السياسات الاقتصادية ولا يتم تحويل تطلعات الفئات والجهات والمناطق المحرومة إلى هدف مركزي لتصور السياسات فستظل الديمقراطية التونسية عرجاء ومهددة.